للشيخ حمدي الحريري
عن مجلة منار الإسلام الإماراتية العدد 4 السنة 15
ولد الشيخ عز الدين القسام في بلدة جبلة بالقرب من اللاذقية سنة 1871 وكان
منذ صغره يميل إلى العزلة والتفكير، وفي شبابه رحل إلى مصر ودرس في الأزهر
وكان من عداد تلاميذ الشيخ محمد عبده. ولما عاد إلى بلاده عمل مدرسا في
جامع السلطان إبراهيم وفي سنة 1920 عندما اشتعلت الثورة ضد الفرنسيين شارك
القسام في الثورة، فحاولت السلطة العسكرية الفرنسية شراءه وإكرامه بتوليته
القضاء، فرفض ذلك وكان جزاؤه أن حكم عليه الديوان السوري العرفي بالإعدام.
ولجأ القسّام إلى مدينة حيفا في 5 شباط 1922 ولجأ معه من رفاق الجهاد
الشيخ محمد الحنفي والشيخ علي الحاج عبيد وحتى سنة 1935 لم يكن سكان حيفا
يعرفون عن عز الدين القسام سوى أنه واعظ ديني ومرشد ورئيس جمعية الشبان
المسلمين في مدينة حيفا وكان بنظرهم شيخا محمود السيرة في تقواه وصدقه
ووطنيته كما كانت منطقة الشمال تعرفه إماما وخطيبا بارعا ومأذونا شرعيا
وما جاء يوم العشرين من تشرين الثاني "نوفمبر" سنة 1935 حتى أضحى القسام
علما من أعلام الجهاد يتردد اسمه في بلاد فلسطين كلها.
استشهد القسام مع بعض رفاقه وهو يؤدي واجبه في مقاومة السلطة الانتدابية
بإصطدام مسلح، وهكذا أخلص القسام للثورة التي بدأها وما كان ليرضيه أنه
البادئ بالثورة وإنما هي الثورة التي خطط لها وكانت العناوين البارزة في
الصحف (معركة هائلة بين عصبة الثائرين والبوليس) و (حادث مريع هز فلسطين
من أقصاها إلى أقصاها).
وعلم الشعب لأول مرة أن الشيخ القسام كان قد اعتصم مع إخوانه في أحراش
قرية يعبد وكانوا مسلحين ولايهابون خطر المجابهة مع البوليس ولا عواقبها،
إلا أن البوليس كان قد أعد قوة هائلة تفوق عدد الثوار بمئات المرات وكان
كقطيع كبير من الجيش مصمما على القضاء على هذه العصابة الإرهابية حسب رأيه
فلذلك أحاطت القوات بالمنطقة منذ الفجر ووضع البوليس العربي في الخطوط
الهجومية الثلاث الأولى من ثم يليه البوليس الإنكليزي من خلفه، وقبل بدء
المعركة نادى أحد أفراد البوليس العربي الثائرين طالبا منهم الاستسلام فرد
عليه القسام صائحا "إننا لن نستسلم، إننا في موقف الجهاد في سبيل الله ثم
التفت إلى رفاقه وقال موتوا شهداء في سبيل الله خير لنا من الاستسلام
للكفرة الفجرة" دامت المعركة القصيرة ساعتين كان خلالها الرصاص يصم الآذان
والطائرات المحلقة على ارتفاع قليل تكشف للبوليس موقع الثوار وقوتهم وفي
نهاية الساعتين أسفرت المجابهة عن استشهاد القسام ورفاقه الذين معه وهم
يوسف عبد الله الزيباري وسعيد عطيه المصري ومحمد أبو قاسم خلف وألقى
البوليس القبض على الباقين من الجرحى والمصابين.
وقد اكشف البوليس عند نهاية المعركة مع الشيخ ذي اللحية البيضاء والمجندل
على التراب بملابسه الدينية مصحفا وأربعة عشر جنيها ومسدسا كبيرا وكان
الشيخ نمر السعدي مازال حيا جريحا حيث استطاع صحفي عربي أن ينقل عن لسانه
أول الحقائق الخفية عن عصبة القسام وكانت هذه الحقيقة دليلا على أن
المجابهة المسلحة هذه كانت بقرار بدء الثورة منهم جميعا.
وعلى إثر معركة يعبد التي استشهد بها القسام وبعدها بعشرين يوما انتهز
الوطنيون مناسبة ذكرى احتلال القدس وأقاموا اجتماعا كبيرا في يافا في 9
كانون الأول (ديسمبر) 1935 اتخذوا فيه قرارات بالثناء على القسام ورفاقه
المجاهدين وحث الشعب على المضي على طريقهم الذي رسموه للأمة العربية
والإسلامية في فلسطين معلنين أن القسام آمن بشيئين هما العروبة والإسلام
وأنه لا سبيل للعرب والمسلمين سوى هذين السبيلين ولا حل لمشكل المسلمين
إلا بإعلان الجهاد في سبيل الله ولا حل للقضية لفلسطينية إلا بالجهاد
الإسلامي وكانت نظرة القسام إلى الجاه والمركز نظرة بغضاء مطلقا.
منذ أن قدم القسام إلى حيفا بدأ يعمل في الإعداد النفسي للثورة وقد ساعده
عدد من المؤمنين بالإسلام ومن هؤلاء الشيخ كامل القصاب وهاني أبو مصلح
والأول سوري والثاني لبناني إلا أن القسام تلقن درسا س الحكم العسكري
الفرنسي في سوريا أن المستعمرين ملة كفر واحدة ولابد من الجهاد في سبيل
الله للتغلب عليهم: وكانت أعماله الخارجية من وعظ وتدريس ستارا لعملية
اختيار الصالحين من التلاميذ والمستمعين وكذلك سعى القسام لعقد الصلات مع
القرى المجاورة عن طريق مهنته كمأذون شرعي للعقود وهكذا السنوات تمر
والأنصار يتكاثرون حتى أذن الله لـه في الثورة والاستشهاد في سبيل الله.
ويرجع المؤرخ أمين سعيد عدم انضمام المثقفين للقسام لأن القسام كان يصرف
كل جهده للعمال والكادحين من الفلاحين وغيرهم لأنهم أكثر الفئات انقيادا
للتضحية في سبيل الله، وقد عبر عن هذه الحقيقة شاب اسمه حسين الباير الذي
استسلم للبوليس إثر المعركة وقال في إفادته الرسمية.
أنا حسين الباير من قرية بلقيس كنت أسرق وارتكب المحرمات فجاءني الشيخ عز
الدين القسام وأخذ يهديني يوما بعد يوم ويعلمني الصلاة وينهاني عن مخالفة
الشرع وعن فعل كل منكر أمر الله باجتنابه وبعد مدة أخذني الشيخ عز الدين
القسام إلى أحد جبال بلقيس وهناك أعطاني بندقية فسألته لم هذه فأجاب لكي
تتمرن عليها وتجاهد مع إخوانك المجاهدين في سبيل الله.
ومن هؤلاء أبو دره ( بياع الكاز على الطنبر) وأبو خليل الذي يبيع الفحم
والفلاييني الذي يلحم التنك والحديد والذي أصبحت مهنته صنع القنابل
البدائية لمهاجة العدو.
ويقول أحد السياسيين الفلسطينين إن ثورة القسام كانت ثورة علينا جميعا
شبابا وكهولا إذ كل واحد منا مثقل بعدد كبير من العيال يخاف عليهم من
التشريد بعده ولا نشعر أمام ثورته إلا بتبكيت الضمير واحمرار الوجوه
سائلين الله أن ينور قلوبنا بالإيمان.
تألفت الخلايا السرية لعز الدين القسام على شكل حلقات سرية مثل حلقات
الأرقم بن أبي الأرقم. خمسة أشخاص مسؤول عنهم (نقيب) وكل خمس وحدات منظمة
لها نظامها الخاص والمشرف عليها بمختلف المهمات هو القسام نفسه.
لاقت ثورة القشام حين قيامها تأييدا واحتراماً من الشعب بلغ الحد الأقصى
وذلك على الرغم من أنها لم تكن ثورة شاملة بالمعنى السياسي والتاريخي
للكلمة ولكن يمكن القول بأنها كانت نمونجا مثاليا لما يجب أن تكون عليه
الثورة كما كانت، انطلاقتها انطلاقة عقائدية وشجاعة في مرحلة كاد اليأس
فيها يعم البلاد والواقع أن القسام لم تكتشف حقيقة الأبعاد النضالية
والسياسية لحركته إلا بعد استشهاده بسنوات، وخاصة لأن رفاقه من بعده
استمروا في النضال محافظين على السرية التامة لوحداتهم النضالية.
لم يطلق القسام على خلايا الجهاد التي أنشأها اسما معينا، كان هناك فقط
شعار عام ينضوي تحت لوائه المجاهدون وتنطوي تحته كل مفاهيم الثورة هذا
جهاد نصر أو استشهاد كما روى عنه إبراهيم الشيخ خليل في كتابه ورسالة من
مجاهد قديم: ذكريات عن القسام ثم أصبح يقال للمجاهدين من إخوانه بعد
استشهاده "القساميون" وشاعت هذه الكلمة في سائر بلاد فلسطين شيوعا كبيرا
لأن اسمه اقترن بهالة من الخلود والتقديس فقد كثر المتبركون باسمه، خاصة
لأنه كان واعظا دينيا إضافة للإمامة وخطبة المسجد وأصبح تلاميذه يرددون
باعتزاز بأنهم قساميون أما رفاقه المجاهدون فكانوا يستعملون كلمة قسامي
فيما بينهم وحتى بعد مرور عشر سنوات على استشهاده أو أن هذا من جماعة
القسام.
جاءت هذه التسمية على البلاغات الحكومية والأخبار الرسمية حيث دعتهم
بالعصابة الإرهابية لكثرة جهادهم واستشهاد الكثير منهم ولكثرة الإصابات في
الجيش والشرطة لقوة هذه العصابة وإخلاصها في الجهاد.
إن المشكلة في عدم تسمية القسام للخلايا السرية التي أنشأها باسم الحزب أو
اسم اللجنة أو غيرهما من التسميات الشائعة يضاف إلى هذا السرية التامة عن
التنظيم وكان ذلك مدعاة لنفي الصبغة التنظيمية السياسية عن عصبة القسام
لدى بعض الناس ومن بين هؤلاء عزة دروزة الذي كان ينفي وجود تنظيم أو حزب
للقسام وبالتالي رفض اعتبار عصبة القسام إحدى التنظيمات الفلسطينية
السياسية، ومن جهة أخرى مغايرة لتزايد عدد الكتاب من عرب وأجانب في
السنوات العشر التي تلت ثورته والذين يكتبون عن عصبة القسام حقائق وتفاصيل
لا توجد عادة إلا في أكثر الأحزاب دقة تطورا.
مع أن عزة دروزه ليس مؤرخا فقط بالنسبة لقضية القسام بل كان رفيق جهاد في
أثناء الثورة الكبرى فقد كان عزة في دمشق كحلقة وصل بين المفتي المقيم في
لبنان وقادة الفصائل التي تتبع قيادة القسام وغيره من قواد فصائل الثورة.
فالتشكيلات السياسية بأهدافها ونظمها المختلفة وأعمالها العلنية والسرية
كانت تفتقر إلى الكوادر المنظمة والعمل المتواصل وعصبة القسام كانت من
أفضلها تنظيما ودراية ونشاطا حيث تنطبق عليها مقاييس المؤسسات الحزبية
الحديثة رحم الله القسام فقد فتح بإخلاصه ودينه طريقا عظيما يخلد فيه كل
جيل قادم طريقا كطريق القسام ومنهجا كمنهجه.